السلام عليكم ، كيف حالكم، أحب أن أقدم بين يديكم هذه السلسلة من خواطر ابن الجوزي المليئة بالحكم والمواعظ من كتابه صيد الخاطر:
ضع الموت نصب عي-
الواجب على العاقل أخذ العدة لرحيله، فإنه لا يعلم متى
يفجؤه أمر ربه، ولا يدري وإني رأيت خلقا كثيرا غرهم الشباب، ونسوا فقد
الأقران، وألهاهم طول الأمل.
وربما قال العالم المحض لنفسه: أشتغل بالعلم اليوم ثم أعمل به غدا،
فيتساهل في الزلل بحجة الراحة، ويؤخر الأهبة لتحقيق التوبة ، ولا يتحاشى
من غيبة أو سماعها، ومن كسب شبهة يأمل أن يمحوها بالورع.
وينسى أن الموت قد يبغت(أي يأتي بغتة وفجأة). فالعاقل من أعطى كل لحظة
حقها من الواجب عليه، فإن بغته الموت رئي مستعدا، وإن نال الأمل ازداد
خيرا.
السمع والبصر
قرأت هذه الأية:{قل أرءيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به} الأنعام:46، فلاحت لي فيها إشارة كدت أطيش منها.
وذلك أنه إن كان عني بالآية نفس السمع والبصر، فإن السمع آلة لإدراك
المسموعات، والبصر آلة لإدراك المبصرات، فهما يعرضان ذلك على القلب،
فيتدبر ويعتبر.
فإذا عرضت المخلوقات على السمع والبصر، أوصلا إلى القلب أخبارها من أنها
تدل على الخالق، وتحمل على طاعة الصانع، وتحذر من بطشه عند مخالفته.
وإن عنى معنى السمع والبصر، فذلك يكون بذهولهما عن حقائق ما أدركا، شغلا
بالهوى، فيعاقب الإنسان بسلب معاني تلك الآلات، فيرى وكأنه ما رأى، ويسمع
كأنه ما سمع، والقلب ذاهل عما يتأدى به، لا يدري ما يُرادُ به، ولا يؤثِر
عنده أنه يَبلى، ولا تنفعه موعظة تجلى، ولا يدري أين هو، ولا المراد منه،
ولا إلى أين يُحمل، وإنما يلاحظ بالطبع مصالح عاجلته ولا يتفكر في خسران
آجلته، لا يعتبر برفيقه، ولا يتعظ بصديقه، ولا يتزود لطريقه كما قال
الشاعر:
الناس في غفلة والموت يوقظهم---وما يفيقون حتى ينفذ العمُر
يشيعون أهاليهم بجمعهــــــــــــمُ---وينظرون ما فيه قد قُبٍــــــــروا
ويرجعون إلى أحلام غفلتــــــهـــم---كأنهم ما رأوا شيئا ولا نظـروا
وهذه حالة أكثر الناس، فنعوذ بالله من سلب فوائد الآلات، فإنها أقبح الحالات.
آثار الذنوب
لا ينال لذة المعاصي إلا سكران بالغفلة.
فأما المؤمن فإنه لا يلتذ، لأنه عند التذاذه يقف بإزائه علم التحريم، وحذر العقوبة.
فإن قويت معرفته رأى بعين علمه قُربَ الناهي، فيتنغص عيشه في حال التذاذه.
فإن غلب سكر الهوى كان القلب متنغصا بهذه المراقبات، وإن كان الطبع في شهوته.
وما هي إلا لحظة، ثم خذ من غريم ندم ملازم، وبكاء متواصل، وأسف على ما كان من طول الزمان.
حتى إنه لو تيقن العفو وقف بإزائه حذار العتاب، فأف للذنوب ما أقبح آثارها
وما أسوأ أخبارها، ولا كانت شهوة لا تُنال إلا بمقدار قوة الغفلة.
دمتم في رعاية الله، وإلى خواطر أخرى مع هذه السلسلة المباركة إن شاء الله تعالى